فصل: فَصْلٌ: (مَنْ زَعَمَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [غَلَطُ السَّالِكِينَ فِي الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَالشَّرْعِيِّ]:

وَأَمَّا غَلَطُ مَنْ غَلِطَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْفِنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، مِنْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، بَلْ أَجَلُّ مَقَامَاتِهِمْ، فَسَارُوا شَائِمِينَ لِبَرْقِ هَذَا الشُّهُودِ، سَالِكِينَ لِأَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ فِيهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى هَذَا السَّيْرِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ مَا شَهِدُوهُ مِنْ حَالِ أَرْبَابِ الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ فَأَنِفُوا مِنْ صُحْبَتِهِمْ فِي الطَّرِيقِ، وَرَأَوْا مُفَارَقَتَهُمْ فَرْضَ عَيْنٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَمَّا عَرَضَ لَهُمُ الْفَرْقُ الشَّرْعِيُّ فِي طَرِيقِهِمْ، وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ أَعْظَمُ وَارِدٍ فَرَّقَ جَمْعِيَّتَهُمْ، وَقَسَّمَ وَحْدَةَ عَزِيمَتِهِمْ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَمْعِ، الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ مَنَازِلِ سِيَرِهِمْ، فَافْتَرَقَتْ طُرُقُهُمْ فِي هَذَا الْوَارِدِ الْعَظِيمِ.
فَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَحَمَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ: الِاشْتِغَالُ بِالْأَوْرَادِ عَنْ عَيْنِ الْمَوْرُودِ انْقِطَاعٌ عَنِ الْغَايَةِ، وَالْقَصْدُ مِنَ الْأَوْرَادِ الْجَمْعِيَّةُ عَلَى الْآخَرِ، فَمَا الِاشْتِغَالُ عَنِ الْمَقْصُودِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالرُّجُوعِ مِنْ حَضْرَتِهِ إِلَى مَنَازِلِ السَّفَرِ إِلَيْهِ؟ وَرُبَّمَا أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ** فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ

فَإِذَا اضْطُرَّ أَحَدُهُمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بِوَارِدِ الْأَمْرِ، قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ عَلَى اللِّسَانِ مَوْجُودًا، وَالْجَمْعُ فِي الْقَلْبِ مَشْهُودًا.
ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُسْقِطُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ جُمْلَةً، وَيَرَى الْقِيَامَ بِهَا مِنْ بَابِ ضَبْطِ نَامُوسِ الشَّرْعِ، وَمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ، وَمَبَادِئِ السَّيْرِ، فَهِيَ الَّتِي تَحُثُّ أَهْلَ الْغَفْلَةِ عَلَى التَّشْمِيرِ لِلسَّيْرِ، فَإِذَا جَدَّ فِي الْمَسِيرِ اسْتَغْنَى بِقُرْبِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَنْهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى سُقُوطَهَا إِلَّا عَمَّنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ، وَوَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ فِيهَا، فَمَنْ كَانَ هَذَا مَشْهَدَهُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ يَقُولُونَ: شُهُودُ الْإِرَادَةِ يُسْقِطُ الْأَمْرَ، وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَقُولُونَ: الْعَارِفُ لَا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً، وَلَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً.
وَيَقُولُ قَائِلُهُمُ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ.
وَيَقُولُونَ: الْقِيَامُ بِالْعِبَادَةِ مَقَامُ التَّلْبِيسِ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}.
وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جَوَابِ لَوِ الَّتِي يَنْتَفِي بِهَا الْمَلْزُومُ- وَهُوَ الْمُقَدَّمُ- لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ، وَهُوَ الْجَوَابُ، وَهُوَ التَّالِي، فَانْتِفَاءُ جَعْلِ الرَّسُولِ مَلِكًا- كَمَا اقْتَرَحُوهُ- لِانْتِفَاءِ التَّلْبِيسِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا قَدْ قَالُوا {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أَيْ نُعَايِنُهُ وَنَرَاهُ، وَإِلَّا فَالْمَلَكُ لَمْ يَزَلْ يَأْتِيهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَهُمُ اقْتَرَحُوا نُزُولَ مَلَكٍ يُعَايِنُونَهُ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَمْ يُجْعَلْ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا أُنْزِلَ مَلَكًا يَرَوْنَهُ، فَقَالَ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} أَيْ لَوَجَبَ الْعَذَابُ وَفُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ لَا يُمْهَلُونَ إِنْ أَقَامُوا عَلَى التَّكْذِيبِ.
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} وَالْحَقُّ هَاهُنَا الْعَذَابُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} أَيْ لَوْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ التَّلَقِّيَ عَنِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَقَعُ اللَّبْسُ مِنَّا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَرَجُلٌ هُوَ، أَمْ مَلَكٌ؟ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ رَجُلًا لَخَلَّطْنَا عَلَيْهِمْ، وَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمُ الَّذِي طَلَبُوهُ بِغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: مَا يَلْبِسُونَ، فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى لُبْسِهِمْ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ شَبَّهُوا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَشُبِّهَ عَلَيْهِمْ، وَتَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الْمَلَكُ بِالرَّجُلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّا نَلْبَسُ عَلَيْهِمْ مَا لَبِسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَلَّطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ مِنْهُمْ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ صِدْقَهُ، وَطَلَبُوا رَسُولًا مَلَكِيًّا يُعَايِنُونَهُ، وَهَذَا تَلْبِيسٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَوْ أَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَهُ، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ لُبْسَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَأَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذَا بِالتَّلْبِيسِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ تَعْلِيقِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُثَوَّبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، وَتَعْلِيقِ الْمَعَارِفِ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْأَحْكَامِ وَالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامِ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمُثَوَّبَاتِ بِالطَّاعَاتِ، مِمَّا هُوَ مَحْضُ الْحِكْمَةِ وَمُوجَبُهَا.
وَأَثَرُ اسْمِهِ الْحَكِيمِ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ إِنَّمَا قَامَ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَجَعْلُ الْأَسْبَابِ مَنْصُوبَةً لِلتَّلْبِيسِ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ شَرْعًا وَقَدَرًا.
وَإِنَّ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغُلُوِّ هُوَ نُفْرَتُهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَمُشَاهَدَتُهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَهُمْ- لَعَمْرُ اللَّهِ- خَيْرٌ مِنْهُمْ، مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا مَا يُفَرِّقُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، فَهُمْ فِي فَرْقِهِمُ النَّفْسِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْجَمْعِ، إِذْ هُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْحَسَنَاتِ وَيُحِبُّهَا، وَيَنْهَى عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيُبْغِضُهَا، وَإِذَا فَرَّقُوا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، وَفَرَّقُوا بِنُفُوسِهِمْ لَمْ يَجْعَلُوا هَذَا الْفَرْقَ دِينًا يُسْقِطُ عَنْهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، بَلْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ ذَنْبٌ قَبِيحٌ، وَأَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ، بَلْ مُفَرِّطُونَ فِي الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ، وَنِهَايَةُ مَا مَعَهُمْ صِحَّةُ إِيمَانٍ مَعَ غَفْلَةٍ وَفَرْقٍ نَفْسَانِيٍّ، وَأُولَئِكَ مَعَهُمْ جَمْعٌ، وَشُهُودٌ يَصْحَبُهُ فَسَادُ إِيمَانٍ، وَخُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ فَرْقِ أُولَئِكَ النَّفْسِيِّ إِلَى جَمْعٍ أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، ثُمَّ آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى أَنْ صَارَ فَرْقُهُمْ كُلُّهُ نَفْسِيًّا، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعُونَ إِلَى فَرْقِهِمْ، وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْفَرْقَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِلْإِنْسَانِ وَلَا بُدَّ، فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بِالشَّرْعِ فَرَّقَ بِالنَّفْسِ وَالْهَوَى، فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، يَمِيلُونَ مَعَ الْهَوَى حَيْثُ مَالَ بِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلِهَذَا السُّلُوكِ لَوَازِمُ عَظِيمَةُ الْبَطَلَانِ، مُنَافِيَةٌ لِلْإِيمَانِ، جَالِبَةٌ لِلْخُسْرَانِ {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَآخِرُ أَمْرِ صَاحِبِهِ الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَأَعْدَائِهِمْ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَهَا وَلَمْ يَصْعَدْ إِلَى الْفَرْقِ الثَّانِي- وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ- فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ إِسْقَاطَ الْفَرْقِ الثَّانِي جُمْلَةً، بَلْ إِنَّمَا يُسْقِطُهُ عَنِ الْوَاصِلِ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، الشَّاهِدِ لِلْحَقِيقَةِ، وَمَا دَامَ سَالِكًا، أَوْ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ فَالْفَرْقُ لَازِمٌ لَهُ.
وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُمْ خَوَاصُّهُمْ، فَإِذَا وَصَلَ وَاصِلُهُمْ إِلَى شُهُودِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِتَفْرِقَةِ الْأَوَامِرِ، وَإِنْ قَامَ بِهَا فَلِحِفْظِ الْمَرْتَبَةِ، وَضَبْطِ النَّامُوسِ، وَحِفْظِ السَّالِكِينَ عَنِ الذَّهَابِ مَعَ الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ، قَبْلَ شُهُودِهِمُ الْحَقِيقَةَ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْحَالَ تَلْبِيسًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَشْفُ هَذَا التَّلْبِيسِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ كَشْفًا بَيِّنًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى سُقُوطِ الْفَرْقِ عَمَّنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ الرَّسُولَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي قِيَامِهِ بِالْأَعْمَالِ تَشْرِيعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ مَتَى تَسْقُطْ عَنِ الْعَبْدِ لَا تَسْقُطْ عَنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا إِذَا زَالَ عَقْلُهُ وَصَارَ مَجْنُونًا.

.فَصْلٌ: [مَنْ زَعَمَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ]:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِيَامَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَاجِبًا إِذَا لَمْ تُفَرَّقْ جَمْعِيَّتُهُ، فَإِذَا فُرِّقَتْ جَمْعِيَّتُهُ رَأَى الْجَمْعِيَّةَ أَوْجَبَ مِنْهَا، فَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَتْرُكُ وَاجِبًا لِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ، وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ وَضَلَالٌ.
فَإِنْ رَأَى أَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْجَمْعِيَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ عَلِمَ تَوَجُّهَهُ إِلَيْهِ، وَأَقْدَمَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْعُصَاةِ وَالْفُسَّاقِ.

.فَصْلٌ: [الْقِيَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ]:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْأَمْرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدُ الْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ غَيَّبَ عَقْلَهُ وَاصْطَلَمَهُ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِوَقْتِ الْوَاجِبِ وَلَا حُضُورِهِ، حَتَّى يَفُوتَهُ فَيَقْضِيَهُ، فَهَذَا مَتَى اسْتَدْعَى ذَلِكَ الْفِنَاءَ وَطَلَبَهُ، فَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ فِي اصْطِلَامِهِ، بَلْ هُوَ عَاصٍ لِلَّهِ فِي اسْتِدْعَائِهِ مَا يُعَرِّضُهُ لِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَهُوَ مُفَرِّطٌ، أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمَتَى هَجَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ- مَعَ مُدَافَعَتِهِ لَهُ- خَشْيَةَ إِضَاعَةِ الْحَقِّ، فَهَذَا مَعْذُورٌ، وَلَيْسَ بِكَامِلٍ فِي حَالِهِ، بَلِ الْكَمَالُ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ إِلَى أَوْدِيَةِ الْفَرْقِ الثَّانِي وَالْبَقَاءِ، فَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُنَادِي عَلَيْهِ شَيْخُ الطَّائِفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ مَا وَقَعَ لِأَجْلِهِ، فَهَجَرَهُمْ وَحَذَّرَ مِنْهُمْ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْفَرْقِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْفَرْقَ فَرْقَانِ، الْفَرْقُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ النَّفْسِيُّ الطَّبِيعِيُّ الْمَذْمُومُ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، بَلِ الشَّأْنُ فِي شُهُودِ هَذَا الْجَمْعِ وَاسْتِصْحَابِهِ فِي الْفَرْقِ الثَّانِي، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّسِعْ قَلْبُهُ لِذَلِكَ فَلْيَتْرُكْ جَمْعَهُ وَفَنَاءَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ، وَلْيَنْبُذْهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، مُشْتَغِلًا بِالْفَرْقِ الثَّانِي، وَالْكَمَالُ أَيْضًا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ شُهُودُ الْجَمْعِ فِي الْفَرْقِ، وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ، وَتَحْكِيمُ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، فَهَذَا حَالُ الْعَارِفِينَ الْكُمَّلِ:
يَسْقِي وَيَشْرَبُ لَا تُلْهِيهِ سَكْرَتُــهُ ** عَنِ النَّدِيمِ وَلَا يَلْهُو عَنِ الْكَاسِ

«إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ، فَأَتَجَوَّزُ فِيهَا، كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ يَشْعُرُ بِعَائِشَةَ إِذَا اسْتَفْتَحَتِ الْبَابَ، فَيَمْشِي خُطُوَاتٍ يَفْتَحُ لَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مُصَلَّاهُ، وَذَكَرَ فِي صَلَاتِهِ تِبْرًا كَانَ عِنْدَهُ، فَصَلَّى، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَقَسَّمَهُ وَعَادَ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَلَمْ تَشْغَلْهُ جَمْعِيَّتُهُ الْعُظْمَى- الَّتِي لَا يُدْرِكُ لَهَا مَنْ بَعْدَهُ رَائِحَةً- عَنْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ: [تَمَكُّنُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ]:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَمْرُ قَامَ إِلَيْهِ، وَبَادَرَ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَإِنْ صَحِبَتْهُ وَإِلَّا طَرَحَهَا، وَبَادَرَ إِلَى الْأَمْرِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ فَضْلٌ، وَالْأَمْرَ فَرْضٌ، وَمَنْ ضَيَّعَ الْفُرُوضَ لِلْفُضُولِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ، لَكِنْ إِذَا جَاءَتِ الْمَنْدُوبَاتُ، الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَرْبَاحِ وَالْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَالْجِهَادِ الْمُسْتَحَبِّ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْخُلْطَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَنْفَعُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، إِذَا رَأَى جَمْعِيَّتَهُ خَيْرًا لَهُ وَأَنْفَعَ مِنْهَا- فَهَذَا غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُفَرِّطٍ إِلَّا إِذَا تَرَكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَاسْتِبْدَالًا بِالْجَمْعِيَّةِ، فَهَذَا نَاقِصٌ.
أَمَّا إِذَا قَامَ بِهَا أَحْيَانًا وَتَرَكَهَا أَحْيَانًا لِاشْتِغَالِهِ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ، بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِكَافِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ جَمْعِيَّةُ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَخَلْوَتُهُ بِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِرُ بِحَصِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي اعْتِكَافِهِ، يَخْلُو بِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْتَغِلُ بِتَعْلِيمِ الصَّحَابَةِ وَتَذْكِيرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَخَلْوَتُهُ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ أَفْضَلُ لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.فَصْلٌ: وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إِذَا جَاءَهُ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ:

وَرَآهَا أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ فِي التَّفْرِقَةِ اشْتَرَى الْفَاضِلَ بِالْمَفْضُولِ، وَالرَّاجِحَ بِالْمَرْجُوحِ، فَإِذَا كَانَ الْمَنْدُوبُ مَفْضُولًا مَرْجُوحًا، وَالْجَمْعُ خَيْرًا مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالْجَمْعِ عَنْهُ، فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ، وَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَرُدُّ مِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِهِ، وَمِنْ جَمْعِهِ عَلَى تَفْرِقَتِهِ، فَيُقَوِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَا يُلْغِي الْحَرْبَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ جَدَّ فِيهَا وَقَامَ بِهَا لِجَمْعِيَّتِهِ، مُقَوِّيًا لَهَا بِالْأَمْرِ، فَإِذَا جَاءَتْ حَالَةُ الْجَمْعِيَّةِ تَقَوَّى بِهَا عَلَى تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ وَالْبَقَاءِ بِهِ، فَيَرُدُّ مِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، وَمِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ قَالَ: أَتَفَرَّقُ لِلَّهِ لِيَجْمَعَنِي عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَالَ: أَجْتَمِعُ لِأَتَقَوَّى عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، لَا لِمُجَرَّدِ حَظِّي وَلَذَّتِي مِنْ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَغِيبُ بِحَظِّهِ مِنْهَا، وَلَذَّتِهَا وَنَعِيمِهَا وَطِيبِهَا، عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ.
فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفَصْلَ، وَأَحِطْ بِهِ عِلْمًا، فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَكَمْ قَدْ زَلَّتْ فِيهِ مِنْ أَقْدَامٍ، وَضَلَّتْ فِيهِ مِنْ أَفْهَامٍ، وَمَنْ عَرَفَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَنَهَضَ مِنْ مَدِينَةِ طَبْعِهِ إِلَى السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، عَرَفَ مِقْدَارَهُ، فَمَنْ عَرَفَهُ عَرَفَ مَجَامِعَ الطُّرُقِ، وَمُفْتَرَقَ الطُّرُقِ، الَّتِي تَفَرَّقَتْ بِالسَّالِكِينَ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.فَصْلٌ: [فِي الْفَرْقِ بَيْنَ المَحَبَّةِ وَالرِّضَا]:

أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمَنْشَأُ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، أَوِ اعْتِقَادِ تَلَازُمِهِمَا، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَقَالُوا: الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ سَوَاءٌ، أَوْ مُتَلَازِمَانِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: الْكَوْنُ كُلُّهُ- قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، طَاعَتُهُ وَمَعَاصِيهِ، خَيْرُهُ وَشَرُّهُ- فَهُوَ مَحْبُوبُهُ.
ثُمَّ مَنْ تَعَبَّدَ مِنْهُمْ، وَسَلَكَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ رَأَى أَنَّ الْأَفْعَالَ جَمِيعَهَا مَحْبُوبَةٌ لِلرَّبِّ، إِذْ هِيَ صَادِرَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَهِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَفَنِيَ فِي هَذَا الشُّهُودِ الَّذِي كَانَ اعْتِقَادًا، ثُمَّ صَارَ مُشْهَدًا، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً، وَلَا يَسْتَنْكِرُ مُنْكَرًا، وَتِلْكَ اللَّوَازِمُ الْبَاطِلَةُ الْمُنَافِيَةُ لِلشَّرَائِعِ جُمْلَةً.
وَلَمَّا وَرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَقَوْلُهُ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وَاعْتَاصَ عَلَيْهِمْ كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا لَهُ، وَقَدْ أَرَادَ كَوْنَهُ؟ وَكَيْفَ لَا يُحِبُّهُ، وَقَدْ أَرَادَ وُجُودَهُ؟ أَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا دِينًا، وَلَا يَرْضَاهَا شَرْعًا، وَيَكْرَهُهَا كَذَلِكَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُهَا، مَعَ كَوْنِهِ يُحِبُّ وُجُودهَا وَيُرِيدُهُ.
فَشَهِدُوا فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ كَوْنَهَا مَحْبُوبَةَ الْوُجُودِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الْمَحْبُوبِ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَحْبُوبُهُ، فَأَحَبُّوا- بِزَعْمِهِمْ- جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ، وَكَذَبُوا وَتَنَاقَضُوا، فَإِنَّمَا أَحَبُّوا مَا تَهْوَاهُ نُفُوسُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي الْكَوْنِ مَا لَا يُلَائِمُ أَحَدَهُمْ وَيَكْرَهُهُ طَبْعُهُ أَبْغَضَهُ، وَنَفَرَ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، مَعَ كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمَحْبُوبِ، فَأَيْنَ الْمُوَافَقَةُ؟ وَإِنَّمَا وَافَقُوا أَهْوَاءَهُمْ وَإِرَادَاتَهُمْ.
ثُمَّ بَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَاءِ بِالْقَضَاءِ، وَهَذِهِ قَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ، فَنَحْنُ نَرْضَى بِهَا، فَمَا لَنَا وَلِإِنْكَارِهَا وَمُعَادَاةِ فَاعِلِهَا، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ؟ فَتَرَكَّبَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ كَوْنُهَا مَحْبُوبَةً لِلرَّبِّ، وَكَوْنُهُمْ مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، وَعَدَمِ اسْتِقْبَاحِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ إِنْكَارِهِ.
وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ جَبْرَ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلَهُ.
فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَطَيُّ بِسَاطِ الشَّرْعِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَالذَّهَابُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَصَارَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ مَشَاهِدَ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا ارْتَاضَ وَصَفَا بَاطِنُهُ تَجَلَّى لَهُ فِيهِ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ، فَهُوَ يُشَاهِدُهَا بِقَلْبِهِ فَيَظُنُّهَا حَقًّا، فَهَذَا حَالُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ.
وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: لَيْسَتِ الْمَعَاصِي مَحْبُوبَةً لِلَّهِ وَلَا مَرَضِيَّةً لَهُ، فَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً لَهُ وَلَا مَقْضِيَّةً، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ.
قَالُوا: وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَمَأْمُورُونَ بِسُخْطِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَبُغْضِهَا وَكَرَاهَتِهَا، فَلَيْسَتْ إِذًا بِقَضَاءِ اللَّهِ، إِذِ الرِّضَا وَالْقَضَاءُ مُتَلَازِمَانِ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَمَشِيئَتَهُ مُتَلَازِمَانِ، أَوْ مُتَّحِدَانِ.
وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِيءُ مِنْ سَالِكِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مَا جَاءَ مِنْ سَالِكِي الْجَبْرِيَّةِ وَعُبَّادِهِمُ الْبَتَّةَ، لِمُنَافَاةِ عَقَائِدِهِمْ لِمَشَاهِدِ أُولَئِكَ وَعَقَائِدِهِمْ، بَلْ غَايَتُهُمُ التَّعَبُّدُ وَالْوَرَعُ، وَهُمْ فِي تَعْظِيمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ، وَأُولَئِكَ قَدْ يَكُونُونَ أَقْوَى حَالًا وَتَأْثِيرًا مِنْهُمْ.
فَمَنْشَأُ الْغَلَطِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ وُجُوبَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا فِي الْفَصْلَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.

.فَصْلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ:

فَأَمَّا الْمَشِيئَةُ، وَالْمَحَبَّةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَهُمَا الْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْفِطْرَةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِمَا يَبَيِّتُونَهُ مِنَ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ الْبَهْتَ وَرَمْيَ الْبَرِيءِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَبَرَاءَةَ الْجَانِي، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ هَذَا شَأْنُهَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَتِهِ، إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ.
وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ دِينًا، مَعَ مَحَبَّتِهِ لِوُقُوعِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ، إِذِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَحْبُوبٌ لَهُ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ بِالْمَشِيئَةِ، غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّهُ مَسْخُوطٌ لِلرَّبِّ، مَكْرُوهٌ لَهُ قَدَرًا وَشَرْعًا، مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا خَلْقُهُ، وَفِيهَا مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ- كَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ- وَفِيهَا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ- كَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ- وَهَكَذَا الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْهَا مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، خَلَقَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي خَلْقِ مَا يَكْرَهُ وَيُبْغِضُ كَالْأَعْيَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} مَعَ أَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فَالْكُفْرُ وَالشُّكْرُ وَاقِعَانِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدْرِهِ، وَأَحَدُهُمَا مَحْبُوبٌ لَهُ مُرْضٍ، وَالْآخَرُ مَبْغُوضٌ لَهُ مَسْخُوطٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عُقَيْبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، مَعَ وُقُوعِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» فَهَذِهِ كَرَاهَةٌ لِمَوْجُودٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ.
وَفِي الْمُسْنَدِ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» فَهَذِهِ مَحَبَّةٌ وَكَرَاهَةٌ لِأَمْرَيْنِ مَوْجُودَيْنِ، اجْتَمَعَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَافْتَرَقَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُهُ.
وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: هَذَا الْفِعْلُ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ وَفُلَانٌ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ وَاللَّعْنَةُ، لَا أَنَّ السُّخْطَ هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ بَلْ هُمَا أَثَرُ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ وَمُوجَبُهُمَا، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فَفَرَّقَ بَيْنَ عَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرَ الْآخَرِ.
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ».
فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ، فَالْأَوَّلُ لِلصِّفَةِ، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ مِنْ رِضَاكَ وُمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتُعَاقِبَهُ، فَإِعَاذَتِي مِمَّا أَكْرَهُ وَأَحْذَرُ، وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي هُوَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ عِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَإِحْسَانِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ إِلَّا بِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَقَضَائِكَ، بَلْ أَنْتَ الَّذِي تُعِيذُنِي بِمَشِيئَتِكَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِمَشِيئَتِكَ، فَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ.
وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ- مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ- إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ.
وَأَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ مَعْنَاهَا، وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهَا لَقَامَ مِنْهُ سِفْرٌ ضَخْمٌ، وَلَكِنْ قَدْ فُتِحَ لَكَ الْبَابُ، فَإِنْ دَخَلْتَ رَأَيْتَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ انْقِسَامَ الْكَوْنِ فِي أَعْيَانِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ إِلَى مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ مَرَضِيٍّ لَهُ، وَمَسْخُوطٍ مَبْغُوضٍ لَهُ مَكْرُوهٍ لَهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ، مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَالْفِطْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ خَالَفَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، وَخَالَفَ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ، وَخَرَجَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.
وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَوَّعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَشْهَدَ عِبَادَهُ مِنْهَا مَا أَشْهَدَهُمْ؟ لَوْلَا شِدَّةُ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى الْفَاعِلِينَ لَمَا اشْتَدَّتْ كَرَاهَتُهُ وَبُغْضُهُ لَهُ، فَأَوْجَبَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ مِنْهُ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِمَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيَرْضَاهُ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَحَابِّ لِمَنْ فَعَلَهَا، وَشُهُودَ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ إِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ، وَإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ، وَإِهَانَةِ أَعْدَائِهِ وَعُقُوبَتِهِمْ، وَإِيقَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ، بَلْ نَفْسُ مُوَالَاتِهِ لِمَنْ وَالَاهُ، وَمُعَادَاتِهِ لِمَنْ عَادَاهُ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ، فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ أَصْلُهَا الْحُبُّ، وَالْمُعَادَاةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، فَإِنْكَارُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، إِنْكَارٌ لِحَقِيقَةِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَشُهُودُ الْقُلُوبِ لِمَحَبَّتِهِ وَكَرَاهَتِهِ، كَشُهُودِ الْعِيَانِ لِكَرَامَتِهِ وَإِهَانَتِهِ.